مقالات للكاتب

بدر الحاج

السبت 14 كانون الأول 2024

شارك المقال

أخطر مرحلة منذ رحيل العثمانيين: التمدّد الصهيوني يهدّد وجودنا في الصميم


سقط نظام البعث في دمشق وتكفل الصهاينة بتدمير الجيش السوري على الطريقة التي اتبعها الأميركيون في العراق بعد احتلاله. واليوم بدأ التشظي في سوريا إذ تُنشر أخبار موثقة بالصورة عن عمليات قتل وسحل ونبش للقبور.
لكن بغض النظر عمّن يحكم في دمشق، فإن أخطر ما تواجهه سوريا الآن هو استيلاء الاحتلال الصهيوني على ما تبقى من الجولان. عملياً، الاستيلاء على منطقة حوران باعتبار أنها كانت جزءاً من الجولان في السابق، وهذا يعني ضمها كما الجولان المحتل إلى الكيان الصهيوني. ومن المؤشرات التي تؤكد تلك المخاوف ارتفاع أصوات من دروز فلسطين ومن بعض العملاء في السويداء تدعو «القائد نتنياهو» لاعتبار حوران خطاً أحمر كما الجولان، وضمها إلى دولة إسرائيل.


عملية الضم القسري لما تبقى من الجولان حتماً تمت بموافقة الأميركيين وبصمت من حكام دمشق الجدد. لكن سيدرك السوريون عاجلاً أم آجلاً أن التوسع الصهيوني يعني السيطرة على جميع مصادر المياه الغزيرة من جبل الشيخ، إضافة إلى السيطرة العسكرية على دمشق والجنوب السوري وقسم كبير من جنوب لبنان مع ما تعنيه هذه الخطوة من تدمير ممنهج للكيان السياسي والاجتماعي الذي ثبت بعد رحيل الفرنسيين.
هذا الضم الزاحف للأرض السورية لن تقتصر مفاعيله على الكيان الشامي، بل له انعكاسات في غاية الخطورة على لبنان. وبالعودة إلى المطامع الصهيونية في حوران يتبين لنا أن الصهاينة نجحوا بداية في السيطرة على مساحة لا بأس بها من المنطقة كانت بحدود 21 ألف هكتار من بينها 12 ألف هكتار بالفجيرة بالقرب من بلدة الشيخ سعد، وتسعة آلاف هكتار بالقرب من دمشق على سفوح جبل الشيخ. ويشير تقرير أمني صادر عن المفوضية الفرنسية في دمشق بتاريخ 18 أيلول 1918 إلى التالي: «تمتلك الوكالة اليهودية في فلسطين أراضي في حوران لا تستقي منها كل الفائدة المرجوة. ويمثل مجموع هذه الأراضي ما يعادل 813 ألف دونم. وقد اشترتها عائلة روتشيلد بانتظام، قبل ثلاثين عاماً تقريباً، بسعر بخس في ظل النظام التركي من أحمد باشا شما، وهو ملاك ثري من دمشق، لكن باسم البارون سالمون ريناخ، لأن آل روتشيلد كانوا يمتلكون أراضي في فلسطين وكانت الحكومة التركية تضع عقبات أمام الأجانب كيلا يصبحون من كبار ملاكي الأراضي».
وتدريجياً أقيمت المستوطنات بتمويل البارون إدمون دو روتشيلد في قرى سحم الجولان، جلين، نبعة، وبوسطاس التي قدرت مساحتها بحوالى مئة ألف دونم. وتم شراء المزيد من الأراضي بواسطة عملاء يهود من لبنان أبرزهم إلياهو شديد. ونظراً إلى أن القانون العثماني كان يمنع بيع الأراضي التي تملكها الدولة (ميري) لليهود الذين لا يحملون الجنسية العثمانية، قام شديد بزيارة إسطنبول وتوسط لدى السلطنة للسماح بدخول 200 - 300 عائلة يهودية سنوياً إلى حوران والاستيطان في الأراضي التي تمّ شراؤها هناك.
أثار الوجود اليهودي في حوران السوريين ووقعت هجمات من قبل البدو القاطنين في المنطقة ضد الغرباء، ولكن سرعان ما أصدر حاكم دمشق كاظم باشا أمراً بطردهم. وبعد هزيمة الأتراك عام 1918 سعت «الشركة الصهيونية لشراء الأراضي» (بيكا) التي يمولها روتشيلد مع الملك فيصل إلى استعادة الأراضي التي كانت تملكها ونجحت في ذلك، واستمر الوضع إلى أن ألغت الحكومة السورية عام 1948 النشاط الاستيطاني في حوران.
وخلال مرحلة الاحتلال الفرنسي لسوريا ولبنان، كان الفرنسيون يراقبون بدقة عبر أجهزتهم الأمنية النشاط الاستيطاني الصهيوني الزاحف في الجليل الأعلى والجولان، وقاموا بسن قوانين تمنع الاستحواذ على الأراضي من دون موافقة السلطات الفرنسية. وتشير وثيقة أرسلها الجنرال ويغان المندوب السامي الفرنسي في سوريا ولبنان والقائد الأعلى لجيش المشرق وجهها إلى وزير الخارجية الفرنسية بتاريخ 8 تموز 1924 إلى التالي: «بدلاً من الاكتفاء بجلب الإسرائيليين المشتتين إلى فلسطين، يطالب بعض الصهاينة الآن بإلحاق كل الأراضي التي يعيش فيها اليهود بفلسطين. لن أستفيض إلى حد عرض الخريطة التي أصدرها الصهاينة في عام 1917 على سعادتكم، وهي خريطة تجد فيها الحدود الشمالية للدولة اليهودية بتماس مع الخط الحديدي بين بيروت ودمشق وتضم صور وصيدا وجزءاً كبيراً من جنوب لبنان. أيضاً بمناسبة التنازل أخيراً عن أراضي المطلة لفلسطين، هناك مطالب في فلسطين تطال جبل حرمون وجنوبي البقاع». ويختم بالقول: «من جانب آخر أخبرني صهاينة في جنوب دولتي لبنان الكبير ودمشق بحالات عدة لشراء الأراضي، إلى حد أنني أجد نفسي مكرهاً على دراسة إن كان ممكناً إيقاف هذا التوسع باستخدام نص تشريعي يمنع شراء الأجانب للأراضي في بعض المناطق».

المسألة ليست سقوط الأسد، واستلام فريق آخر الحكم، الموضوع الأساسي أن تدمير سوريا من قبل الصهاينة والغرب هدفه الأول والأخير تثبيت الكيان الصهيوني كقوة مهيمنة أساسية في بلادنا


شعور سلطات الاحتلال الفرنسي بخطورة التوسع الاستيطاني اليهودي في أراضي سوريا ولبنان، يؤكده عدد من التقارير الأمنية الفرنسية. وتبين تلك التقارير أن الصهاينة لجأوا إلى وسائل مختلفة للوصول إلى أهدافهم، ومنها الضغط على السلطات في باريس لتسهيل شرائهم الأراضي، أو عبر تكليف مكاتب محاماة في بيروت العمل للاستحواذ على الأراضي المنوي شراؤها بأسماء لبنانية، ثم تنقل بعد مدة إليهم بوصفهم الشاري الفعلي. لذلك أصدر الجنرال ويغان توجيهات إلى الدوائر العقارية بمنع الشركات التجارية اللبنانية أو السورية أو الأجنبية الاستحواذ على الأملاك غير المنقولة أو امتلاكها أو التصرف بها. أعقب ذلك في تقرير رقم 4933 بتاريخ 5 أيلول 1924 بمراقبة عمليات بيع الأراضي لليهود. وتطور الأمر إلى إصدار توجيهات تقضي بحظر القيام بأي إجراء شكلي لنقل الملكية باسم يهود مقيمين في فلسطين.
أصبح الاستيلاء على هضبة الجولان وضمها رسمياً إلى الدولة اليهودية وإقامة مستوطنات ومشاريع ضخمة فيها، أمراً واقعاً مفروضاً بالقوة العسكرية. ولذلك أعتقد أن التوسع الأخير واللعب على المنازعات المذهبية بهدف تحريض الدروز السوريين على حتمية انفصالهم عن وطنهم، سيصبح أمراً واقعاً جديداً ما دام أن السوريين حالياً منهمكون بتصفية بعضهم بعضاً.
الإستراتيجية الصهيونية الحالية هي تنفيذ لمشاريع صهيونية سابقة. وقد أدرك الصهاينة الأوائل، أمثال بن غوريون وشاريت، أن تثبيت الكيان اليهودي في فلسطين يوجب تقسيم ما قسمته اتفاقية سايكس - بيكو على قاعدة انعدام وجود قواسم مشتركة بين السوريين. لذلك اقترحوا المسارعة إلى إقامة كيانات مستقلة أسوة بالكيان اليهودي في فلسطين على أسس طائفية ومذهبية أو إثنية. وهذا مشروع سبق للفرنسيين أن حاولوا تنفيذه، لكنه فشل.
ومن الأمثلة على تلك المخططات، ما جاء في كتاب دافيد بن غوريون الذي نشر باللغة الإنكليزية سنة 1974 بعنوان «محادثاتي مع الزعماء العرب». جاء في هذا الكتاب نص محضر لقاء ضم كلاً من الدكتور يهودا ماغنس رئيس الجامعة العبرية ودافيد بن غوريون وجورج أنطونيوس في 29 نيسان 1936 بهدف التوصل إلى اتفاق عربي - يهودي. وقد أصر ماغنس خلال اللقاء على وجهة نظره الداعية إلى إعطاء «العلويين واللبنانيين والدروز مقاطعات منفصلة، وكذلك منطقة شرق الأردن إلى جانب دولة فلسطين اليهودية» (صفحة 57).
الأمثلة كثيرة على نوايا الصهاينة في التقسيم. وأختم بما جاء في كتاب ميخائيل بن زوهار بعنوان «النبي المسلح - السيرة الذاتية لدافيد بن غوريون» (1967) حيث ذكر في الصفحات 234 - 236، أنه أثناء التحضيرات السرية للعدوان على مصر سنة 1956 عرض دافيد بن غوريون رئيس الحكومة الإسرائيلية أمام المسؤولين الفرنسيين في الاجتماع السري الذي عُقد في قصر سيفر تفاصيل خطته التي تتلخص أولاً القضاء على عبد الناصر، ثم تقسيم الأردن إذ تصبح الضفة الغربية تحت السيطرة الإسرائيلية، أمّا الضفة الشرقية، فتكون تحت سيطرة العراق (نوري السعيد). وأضاف بن غوريون يقول إن القوات الإسرائيلية ستتقدم إلى نهر الليطاني جاعلة منه الحدود الشمالية لدولة إسرائيل. أمّا القسم الآخر من لبنان، فستقام عليه دولة مسيحية.
ختاماً، إذا لم نكن على دراية بما يخططه الأعداء لبلادنا، فإن الحروب الداخلية باسم الدين والطائفة والتمايز الإثني أو العرقي ستكون بمنزلة مقبرة لنا جميعاً. لم يسبق لبلادنا منذ رحيل العثمانيين عن أرضنا أن شهدت مثل هذه المخاطر الوجودية على الإطلاق. حتى نكبة فلسطين عام 1948، وحروب الصهاينة ضدنا منذ النكبة، لا تقارن بالنسبة إلى مخاطر اليوم. المسألة ليست سقوط الأسد، واستلام فريق آخر الحكم، الموضوع الأساسي أن تدمير سوريا من قبل الصهاينة والغرب هدفه الأول والأخير تثبيت الكيان الصهيوني كقوة مهيمنة أساسية في بلادنا.
ولمن خانته الذاكرة: كان الفلسطينيون خلال ثورة البراق يرفعون في مظاهراتهم شعارات «فلسطين جزء من سوريا». أمّا اليوم، فيعلن الصهاينة على الملأ أنهم على طريق إقامة إسرائيل الكبرى. يبقى الأمل في أن يدرك الجميع، وعلى رأسهم السوريون واللبنانيون تحديداً، أن لا خيار أمامهم سوى مواجهة الاحتلال الصهيوني، وإلا فإن الصهاينة سيتحكّمون في كل أمورهم.
* كاتب لبناني

الأكثر قراءة

محتوى موقع «الأخبار» متوفر تحت رخصة المشاع الإبداعي 4.0©2025

.يتوجب نسب المقال إلى «الأخبار» - يحظر استخدام العمل لأغراض تجارية - يُحظر أي تعديل في النص، ما لم يرد تصريح غير ذلك

صفحات التواصل الاجتماعي